عبّر مدرب جورجيا، الفرنسي ويلي سانيول، عن مشاعر العديد من مدربي المنتخبات مثل تركيا وبلغاريا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا، حين قال بأسى واضح: “إسبانيا لا تلعب في عالم آخر فقط، بل في كون مختلف تماماً”.
المدرب الفرنسي، الفائز بدوري أبطال أوروبا مع بايرن ميونخ ووصيف بطل العالم 2006، أطلق تصريحه بعدما شاهد منتخب إسبانيا الثالث يهدد بإحراز ثمانية أو تسعة أهداف في مرمى جورجيا، قبل أن يكتسح لاحقاً بلغاريا برباعية ويعادل الرقم القياسي التاريخي في عدد المباريات الرسمية دون هزيمة (29 مباراة).
ووفقا لشبكة “espn”، فإن هذا الرقم يعادل إنجاز الجيل الذهبي لإسبانيا بقيادة إيكر كاسياس وتشافي هرنانديز وأندريس إنييستا وسيرجيو بوسكيتس وتشابي ألونسو وكارليس بويول وجوردي ألبا وسيرجيو راموس وديفيد فيا وفرناندو توريس.
وتساءلت الشبكة “هل ندرك أننا نعيش زمناً ذهبياً جديداً – وربما الأزهى – في تاريخ كرة القدم الإسبانية؟”
اللافت في نسخة لويس دي لا فوينتي الحالية من “لا روخا” هو أنها تواصل الانتصارات وتقديم المتعة رغم غياب أبرز نجومها.
ففي آخر مباراتين بتصفيات كأس العالم، كان يمكن لإسبانيا تشكيل فريق كامل من الغائبين يضم:
حراس المرمى: خوان جارسيا، دافيد دي خيا.
الدفاع: داني كارفاخال، دين هويسن، باو توريس، ناتشو، أليخاندرو بالدي، إينيجو مارتينيز
الوسط: رودري، فابيان رويز، مارك كاسادو، جافي، فيرمين لوبيز، داني أولمو، إيسكو
الهجوم: لامين يامال، ألفارو موراتا، أيوزي بيريز، خوسيلو، نيكو ويليامز
وأشارت الشبكة إلى أن هذا التشكيل – لو لعب وحده – قادر على الفوز بأي بطولة، ومع ذلك غاب جميع هؤلاء اللاعبين لأسباب مختلفة عن آخر انتصارين.
وإذا أضفنا فيران توريس الذي غاب بداعي إصابة عضلية، يصبح المجموع 20 لاعباً من الطراز الأول خارج التشكيلة.
لكن، كم منتخباً آخر في العالم يمكنه أن يخسر هذا العدد من نجومه – وبينهم من هم الأفضل في مراكزهم – ويواصل التفوق بهذا الشكل؟ الجواب ببساطة: لا أحد.
رغم هذا النقص، تواصل إسبانيا الهيمنة على خصومها، حتى أولئك الذين يكتفون بالدفاع طوال المباراة. ففي المباراة الأخيرة على الساحل الجنوبي الشرقي، أنقذ الحارس الجورجي جيورجي مامارداشفيلي، نجم ليفربول، فريقه من هزيمة بنتيجة قد تصل إلى 9-0.
وحين سُئل سانيول عن السبب وراء هذه الهيمنة والعمق اللامحدود في كرة القدم الإسبانية، أجاب: “هل تتذكرون إسبانيا في الثمانينيات والتسعينيات؟ كانوا جيدين ويلعبون كرة جميلة لكنهم لم يفوزوا بالألقاب. ما نشاهده الآن هو ثمرة تخطيط جيد وعمل منهجي استمر أكثر من 20 عاماً من قبل الاتحاد الإسباني”.
وأضاف: “خذ بيدري مثالاً. وزنه بالكاد خمسة كيلوجرامات (مبالغة طريفة)، ويبدو وكأنه سيطير مع أول هبة ريح، لكنه من بين أفضل ثلاثة لاعبين في العالم، لأنه ذكي للغاية، كل ما يفعله يصب في مصلحة الفريق: التحرك، طلب الكرة، صناعة المساحات”.
وتابع: “إسبانيا تنتج لاعبين يتمتعون بذكاء كروي استثنائي. هذا ما يميزها. حتى حين يغيب ستة أو سبعة نجوم، لا تلاحظ الفارق، لأن البدلاء يلعبون بنفس الأسلوب وبالمستوى ذاته”.
خلال السنوات الأربع الماضية فقط، حققت إسبانيا: نصف نهائي يورو 2021، فضية أولمبياد طوكيو 2021، وصافة دوري الأمم 2021، ثمن نهائي كأس العالم 2022، لقب دوري الأمم 2023، لقب يورو 2024، ذهبية أولمبياد 2024، وبلوغ نهائي دوري الأمم 2025.
لو كانت هذه الأرقام خاصة بحصان سباقات، لارتفعت قيمته إلى السماء، إذ احتل المراكز من الثالث إلى الثاني ثم التاسع فالأول ثلاث مرات متتالية!
وللتأكيد على كلام سانيول، استخدم دي لا فوينتي خلال هذه الفترة أكثر من 63 لاعباً، كثير منهم لم يكن يُتوقع أن ينجح على المستوى الدولي، لكنهم أصبحوا ركائز أساسية.
وفي حديث مع لاعب ليدز يونايتد إيليا جرويف بعد فوز إسبانيا 4-0 على بلغاريا، قال: “اللعب أمام إسبانيا صعب جداً، لا تستطيع حتى الدخول في الالتحامات. لا يمكنك لمس الكرة لأنهم يحركونها بسرعة هائلة. إنهم أذكى لاعبين في العالم. كل شيء لديهم بسيط وذكي، وهذا أفضل أسلوب ممكن. حين تواجههم تدافع طوال الوقت، وعندما تفوز بالكرة تكون مرهقاً تماماً”.
وأضاف: “مشاهدة إسبانيا متعة. يبدو الأمر سهلاً، لكنه في الحقيقة غاية في الصعوبة”.
ورغم كل ذلك، فإن النجاح الإسباني ليس وليد الصدفة، بل نتيجة عملية مستمرة. فالاتحاد الإسباني يبدأ كل عام من فئة 14-15 عاماً، حيث يتم اختيار أفضل 55 موهبة ويتم صقلها من خلال الانضباط والتكتيك والعمل الجماعي والمسؤولية.
وقال المنسق السابق لمنتخبات الشباب في الاتحاد الإسباني، خينيس ميلينديز: “منذ وصول اللاعبين في سن 15 وحتى بلوغهم 21، نعمل معهم بنفس الطريقة ونفس التدريبات حتى تصبح العادات آلية. اللاعبون يأتون بموهبة فطرية، ونحن نمنحهم النظام. وهذان العنصران – النظام والموهبة – هما ما يميز كرة القدم الإسبانية”.
لذلك، حين يغيب لاعب أساسي، يظهر آخر يقوم بالدور نفسه. وكما قال ميكيل ميرينو، نجم آرسنال، بعد تسجيله هدفين ضد بلغاريا: “نحن عائلة”.
وفي لفتة جماعية جميلة، رفض ميرينو تنفيذ ركلة الجزاء الأخيرة ليسمح لميكيل أويارزابال بالتسجيل ورفع رصيده إلى 13 هدفاً تحت قيادة دي لا فوينتي، بينها هدف الفوز بنهائي يورو 2024. وقد عملا معاً منذ كان أويارزابال في التاسعة عشرة، ولا عجب أن مستواه مع المنتخب يفوق كثيراً ما يقدمه في ريال سوسيداد.
واختتم سانيول حديثه قائلاً: “إسبانيا والبرتغال هما النموذجان الكرويان اللذان يجب على كل الدول الأخرى التعلم منهما وتقليدهما”.
قالها وهو يبتسم بحزن، بعدما مرّ هو ولاعبوه بتجربة “إسبانيا الحقيقية” التي تركتهم منهكين، لكن مبهورين.