تحوّلت سوق الانتقالات الأوروبية في السنوات الأخيرة إلى ساحة صراع اقتصادي لا يقل ضراوة عن التنافس الكروي داخل المستطيل الأخضر.
ومع ضخّ أندية الدوري الإنجليزي الممتاز أموالًا هائلة في كل موسم، وجدت أندية عريقة مثل بايرن ميونخ نفسها في مأزق غير مسبوق، بعدما باتت عاجزة عن فرض هيمنتها المعتادة على السوق الألمانية والأوروبية.
آخر هذه الفصول كان صفعةً مؤلمة من نادي نيوكاسل يونايتد، الذي خطف المهاجم الألماني العملاق نيك فولتمايده من بين يدي العملاق البافاري.
صفقة تهز كبرياء بايرن
كان بايرن ميونيخ يظن أنه الأقرب لحسم صفقة فولتمايده، مهاجم شتوتجارت البالغ من العمر 23 عامًا، والذي يتمتع بطول فارع يصل إلى 1.98 متر، لكن نيوكاسل قلب الطاولة بعرض مغرٍ بلغ 65 مليون جنيه إسترليني لتعويض رحيل المهاجم السويدي ألكسندر إيزاك، الذي انتقل بدوره إلى ليفربول في صفقة تاريخية.
هذه الخطوة شكّلت صدمة داخل أروقة النادي البافاري الذي اعتاد طوال عقود على خطف أبرز المواهب الألمانية الواعدة من فرق البوندسليجا.
غير أن أموال البريميرليج قلبت المعادلة تمامًا، ودَفعت شتوتجارت إلى تفضيل العرض الإنجليزي السخي.
بداية نارية للمهاجم الشاب
المثير أن فولتمايده لم يتأخر في تبرير هذا الاستثمار الضخم، إذ افتتح موسمه مع نيوكاسل بقوة مسجلًا هدفين بالرأس، كان أحدهما هدف الافتتاح في الخسارة 1-2 أمام آرسنال يوم الأحد الماضي.
هذه البداية عززت قناعة إدارة نيوكاسل بأنها حسمت صفقة رابحة رغم الانتقادات التي طالت المبلغ المدفوع.
رومينيجه يطلق النار
كارل هاينز رومينيجه، أسطورة بايرن ميونخ والرئيس التنفيذي السابق للنادي، لم يخفِ غضبه من الطريقة التي خسر بها فريقه الصفقة.
ففي تصريحات لصحيفة “ذا صن” البريطانية، قال: “لا يسعني إلا أن أهنئ الناس في شتوتجارت لأنهم وجدوا – اسمحوا لي أن أضعها بين علامتي اقتباس – أحمق دفع هذا القدر من المال، لأننا في ميونخ بالتأكيد لم نكن لنفعل ذلك”.
وأضاف موضحًا: “عليك أن تكون لديك وجهة نظر أصيلة حول الأمور، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لكي تحظى بالاعتراف بمصداقيتك داخليًا وخارجيًا”.
وكشف رومينيجه عن كواليس النقاش داخل إدارة بايرن: “سأكون صريحًا: عندما ظهرت قصة فولتمايده، ثم جاء طلب شتوتجارت، قلت أنا وكذلك أولي هونيس، هربرت هاينر، يان دريسن، وماكس إيبرل، أعضاء مجلس إدارتنا: يا جماعة، نحن نصل ببطء إلى مستوى لم أعد أراه مقبولًا بعد الآن”.
وختم بلهجة حاسمة: “لا ينبغي لنا أن نلبي كل طلب لإرضاء شخص ما – وخاصة الممولين في شتوتجارت”.
المال الإنجليزي يغيّر قواعد اللعبة
تصريحات رومينيجه لم تكن مجرد تعبير عن خيبة أمل في صفقة واحدة، بل كشفت أزمة أعمق تتعلق بالفجوة المالية المتنامية بين الدوري الألماني والدوري الإنجليزي الممتاز، فقد أصبحت الأندية الإنجليزية قادرة على دفع مبالغ خيالية لإغراء اللاعبين والأندية، بينما تتمسك أندية ألمانيا، بما فيها بايرن، بسياسة مالية أكثر تحفظًا.
بالنسبة لبايرن، الذي اعتاد لعقود على السيطرة شبه المطلقة على السوق المحلية، تمثل خسارة موهبة ألمانية واعدة مثل فولتمايده لصالح نادٍ إنجليزي ضربةً معنويةً كبيرةً تتجاوز حدود صفقة فاشلة.
مقارنة بصفقة فيرتز
المفارقة أن رومينيجه اتخذ نبرة مختلفة عندما تطرق إلى صفقة أخرى فشل بايرن في حسمها، وهي انتقال صانع الألعاب الألماني فلوريان فيرتز من باير ليفركوزن إلى ليفربول.
وقال: “نحن في الواقع نشعر بالأسف قليلًا بشأن فلوريان، لأنه لاعب رائع وأعتقد أنه كان سيكون مناسبًا تمامًا لنا”.
يُظهر هذا التصريح اعترافًا ضمنيًا بواقعية خسارة فيرتز، الذي تُقدّر قيمته بأكثر من 100 مليون جنيه إسترليني ويُعد لاعبًا عالميًا، أما خسارة فولتمايده، الذي لا يزال غير مجرّب على نطاق واسع، فهي أشد إيلامًا لأنها تكشف حدود القوة الحالية لبايرن أمام نفوذ أندية البريميرليج.
صراع المبادئ والواقع
تثير تصريحات رومينيجه جدلًا حول فلسفة بايرن في التعاقدات، فبينما يتمسك النادي بنهج عقلاني يحافظ على استقراره المالي، يرى البعض أن هذا النهج لم يعد كافيًا لمجاراة السوق الأوروبية الحالية.
والسؤال المطروح: هل يستمر بايرن في الالتزام بمبادئه المالية على حساب قدرته التنافسية، أم يضطر يومًا ما إلى خوض مزادات ضخمة لمجاراة أندية إنجلترا وإسبانيا؟
جدير بالذكر أن بايرن أبرم في السنوات الأخيرة صفقات كبيرة مثل ضم قائد منتخب إنجلترا هاري كين، لكنه لا يزال حذرًا في دفع مبالغ فلكية لنجوم لم يثبتوا أنفسهم بعد.
هذا الحذر، الذي كان ميزة في الماضي، قد يتحول إلى نقطة ضعف في سوق باتت تحكمها قوانين المال أكثر من أي وقت مضى.
فصل جديد في صراع طويل
ما جرى في صفقة فولتمايده ليس سوى فصل جديد في صراع مستمر بين بايرن ميونيخ وأندية الدوري الإنجليزي الممتاز. قد يصف رومينيجه نيوكاسل بـ”الأحمق”، لكن الواقع يؤكد أن الأموال الإنجليزية قلبت موازين القوى، وأن البوندسليجا أصبح عاجزًا عن حماية نجومه أمام الإغراءات القادمة من إنجلترا.
وبينما يستمتع فولتمايده ببدايته الموفقة في إنجلترا، يجد بايرن نفسه مضطرًا لإعادة التفكير في استراتيجيته إذا أراد الاحتفاظ بهيبته التاريخية ومجاراة سوق لا تعترف إلا بمن يدفع أكثر.