من تيبيتو إلى الأزتيكا: القصة المذهلة لقميص الأرجنتين في مونديال المكسيك 1986 (للنشر 10 صباحا)

BySayed

ديسمبر 4, 2025


في كأس العالم بالمكسيك، تم ترسيخ تألق فريق مارادونا من خلال الزي الرسمي الذي تم شراؤه في اللحظة الأخيرة من أحد أسواق الشوارع.

عندما نتحدث عن المسيرة المجيدة للأرجنتين في مونديال 1986، هناك حكايات تتكرر دوماً: “يد الرب”، و”هدف القرن”، ودييجو مارادونا وهو يرفع الكأس في استاد الأزتيكا. هذه المشاهد ليست محفورة فقط في ذاكرة للأرجنتينيين، بل في ذاكرة عشاق كرة القدم في كل أنحاء العالم، إلى حدٍّ يجعلها تبدو كأنها مشاهد من فيلم شاهدناه جميعا مرات لا تحصى.

لكن هناك قصصا أخرى، أكثر هدوءا، تعيش في هوامش تلك الحكايات الكبرى. لحظات قد تبدو ثانوية للوهلة الأولى، لكنها في النهاية تسلط الضوء على البطولة، أو البلد، أو جيلا كاملا من زاوية غير متوقعة.

وكان مونديال المكسيك 1986 غنيا بتلك اللحظات؛ حرارة الظهيرة الخانقة في مكسيكو سيتي، الارتفاع الشاهق الذي دفع المدرب كارلوس بيلاردو إلى وضع خطط تدريبية دقيقة حدّ الهوس، والمؤتمرات الصحفية التي كان مارادونا يجيب فيها على أسئلة الصحفيين المندهشين بجمل حادة لا تُنسى.

ومن بين تلك القصص الجانبية، تبرز واحدة من أكثرها غرابة وسحرا: قصة القمصان “المزوّرة” التي ارتداها المنتخب الأرجنتيني في مباراته التاريخية ضد إنجلترا في ربع النهائي – قمصان تم شراؤها في اللحظة الأخيرة من حي تيبيتو، أحد أكثر أحياء مكسيكو سيتي خطورة وشهرة.

كأس عالم تحت الشبهة

Argentina Manager Carlos Bilardo 1984Getty Images

لفهم حجم تلك الحكاية الصغيرة، لا بد من العودة إلى الأشهر التي سبقت المونديال.

لم تدخل الأرجنتين إلى كأس العالم 1986 في المكسيك وهي من بين المرشحين. فذكريات مونديال إسبانيا 1982 كانت لا تزال حاضرة وثقيلة — البطولة التي حاول فيها المنتخب الدفاع عن لقبه الذي ناله عام 1978، لكنه فشل فشلاً ذريعاً.

حينها انهار فريق سيزار لويس مينوتي في الدور الثاني، وتعرض دييجو مارادونا، الذي كان وقتها شابا في الحادية والعشرين من عمره، للطرد في مواجهة البرازيل.

الانتقال إلى حقبة المدرب كارلوس بيلاردو لم يكن سهلا على الإطلاق. أسلوبه التكتيكي – القائم على خطة 3-5-2 التي تركز على الانضباط والدفاع قبل أي شيء، اعتبره كثيرون خروجا عن “العقيدة” التي أسسها مينوتي، ذلك المدرب الرومانسي الذي آمن بالكرة الهجومية الجميلة.

الصحافة الأرجنتينية، ذات النفوذ الكبير، لم تتردد في إعلان عدم ثقتها ببيلاردو، ووصمته بأنه “مدرب دفاعي بارد” و”محاسب في الميدان”، بل واتهمته بأنه “قتل جوهر الكرة الأرجنتينية”.

نتائج الفريق قبل البطولة كانت متواضعة، الانسجام مفقود، والشكوك تتزايد، حتى أن بعض الصحفيين كتبوا حينها أن “الهدف الواقعي هو تجاوز الدور الأول وحفظ ماء الوجه فقط”.

كان الجو العام في بوينس آيرس مشحوناً بالتشاؤم، بل بالعداء أحيانا. وفي موازاة ذلك، كانت البلاد نفسها تمر بمرحلة مضطربة. فالديمقراطية الفتية التي قادها راؤول ألفونسين كانت تكافح لتثبيت أقدامها بعد سنوات من الحكم العسكري، وسط توترات سياسية واقتصادية خانقة.

وكما جرت العادة في الأرجنتين، كانت كرة القدم متنفسا جماعيا للشعب، لكنها أيضا ساحة رمزية للصراع. وفي خضم ذلك المشهد، بدا كأس العالم وكأنه مساحة للتنفيس الجماعي والأمل في آن واحد، حتى وإن لم يؤمن كثيرون بأن المنتخب قادر فعلا على الذهاب بعيدا.

مارادونا.. القائد صاحب المهمة غير المكتملة

Maradona 1982 Argentina Brasil 24 10 2016

وسط كل تلك الشكوك، كانت هناك حقيقة واحدة لا جدال فيها.. دييجو أرماندو مارادونا.

في الخامسة والعشرين من عمره، وصل إلى المكسيك في قمة لياقته البدنية وقد أصبح قائد المنتخب.

في إيطاليا، كان يُعامل كإله في مدينة نابولي — رغم أنه لم يكن قد قاد الفريق بعد إلى أمجادهم الكبرى التي ستأتي لاحقا — لكن على مستوى كأس العالم، كان ما يزال عليه أن يسدد دينا مؤجلا.

مونديال إسبانيا 1982 ترك جرحا غائرا في ذاكرة دييجو: الطرد أمام البرازيل، الخروج المبكر، وسيل الانتقادات القاسية التي نالت منه بلا رحمة. بالنسبة لكثير من الصحفيين، كانت بطولة المكسيك بمثابة لحظة “الآن أو أبداً” لمارادونا.

المدرب كارلوس بيلاردو أدرك ذلك جيداً، فبنى فريقه بأكمله حول الرقم 10. لم تكن هناك أي “خطة بديلة” — كل شيء في المنظومة كان يتمحور حول دييجو الذي قال لاحقا وهو يستعيد ذكرياته في مقابلاته بعد البطولة: “جئنا إلى هنا لنقاتل، أشعر أن هذا هو وقتنا”.

تلك القناعة لم تكن مجرد كلمات حماسية، بل رسالة موجهة إلى زملائه في الفريق، وإلى أمة بأكملها كانت تشك في قدرتها على الحلم مجددا. أما بيلاردو فكان يكرر في تدريباته: “دييجو هو المحور، كلنا نلعب من أجل أن نُظهر أفضل ما لديه”.

لكن التحدي لم يكن تكتيكياً فقط. فالعوامل الخارجية كانت أقسى مما توقع الجميع: ارتفاع المدن مثل تولوكا ومكسيكو سيتي عن سطح البحر، حرارة الظهيرة اللاهبة، والصعوبات اللوجستية التي فرضها تنظيم بطولة ضخمة تتطلب حلولا سريعة في كل لحظة.

وفي خضم هذا المزيج من العقبات والمشقات، وُلدت تلك القصة الغريبة التي ستصبح لاحقا جزءا من أسطورة كأس العالم 1986 — قصة قمصان الأرجنتين “الطارئة” التي بدأت من أحد أسواق مكسيكو سيتي الشعبية.

مشكلة القميص

في الثاني والعشرين من يونيو/حزيران عام 1986، كانت الأرجنتين على موعد مع إنجلترا في استاد الأزتيكا ضمن ربع نهائي كأس العالم.

كانت المباراة مشحونة بالرمزية إلى أقصى حد. فبعد أربع سنوات فقط من حرب جزر الفوكلاند، التي وضعت البلدين في مواجهة دامية، ما تزال الجراح مفتوحة والذكريات المؤلمة حاضرة في وجدان المجتمع الأرجنتيني.

وبينما أصر الفيفا على أن “الأمر لا يتعدى كونه مباراة كرة قدم”، كان واضحا للجميع – جماهير ولاعبين – أن تلك المواجهة تمثل ما هو أعمق بكثير من مجرد مباراة.

في ذلك السياق المتوتر، أبلغ الفيفا المنتخب الأرجنتيني بأنه يتعين عليه ارتداء قمصان داكنة اللون لتمييزه عن القمصان البيضاء لمنتخب إنجلترا.

تفصيل تقني بسيط في الظاهر، لكنه سرعان ما تحول إلى أزمة حقيقية: الفريق لم يكن يمتلك بديلا مناسبا للحرارة المرتفعة في مكسيكو سيتي.

القميص الاحتياطي الوحيد المتاح كان مصنوعاً من القطن السميك — ثقيل للغاية ويكاد يكون غير صالح للارتداء تحت شمس الظهيرة المكسيكية الحارقة.

أدرك المدرب بيلاردو على الفور أن ارتداء هذه القمصان قد يشكل خطرا بدنيا على لاعبيه، خصوصا في مباراة بهذه الأهمية والجهد الكبير، حيث يمكن لتفصيل صغير أن يصنع الفارق بين النصر والهزيمة.

المدافع أوسكار روجيري تذكّر القصة بعد سنوات قائلا: “ذهبوا إلى حي تيبيتو لأن زيلادا كان يعرف المكان – أرسل عامل الملابس بحقيبة ظهر، فعاد بقميص واحد من النوع السميك. طردوه، لكن كان علينا أن نلعب… فذهبوا مرة أخرى بحثا عن قمصان أخرى، وهناك وجدوا ما أعجبنا”.

وكأن القدر، بمكره المعتاد، وضع المنتخب في مأزق عبثي: إما أن يلعبوا بقُمصان خانقة لا تُطاق، أو يخرجوا إلى شوارع مكسيكو سيتي ليبحثوا عن بدائل مناسبة بأنفسهم.

وهكذا دخل حي تيبيتو – أحد أكثر أحياء العاصمة فوضوية وخطورة – إلى صفحات التاريخ، ليصبح مسرحا لحل أزمة الأرجنتين قبل واحدة من أشهر المباريات في تاريخ كأس العالم.

تيبيتو.. سوق الممكن

يعد حي تيبيتو واحدا من أكثر الأحياء شهرة في مكسيكو سيتي — شعبي، صاخب، خطير، وساحر في الوقت نفسه.

يُعرف بين المكسيكيين باسم “الحي القاسي”، وهو رمز لثقافة الشارع والمقاومة الشعبية، ولمهارته العجيبة في “إعادة الإنتاج” و”التقليد” و”الاختراع من لا شيء”.

وبحلول ثمانينيات القرن الماضي، كان تيبيتو قد اكتسب سمعته كأكبر مركز لبيع البضائع المقرصنة — من الأفلام إلى الملابس الرياضية، وكل ما يمكن تخيله.

وفي خضم الحمى الكروية التي اجتاحت المكسيك خلال كأس العالم 1986، كانت شوارع تيبيتو تغصّ بقمصان المنتخبات من مختلف الدول. الكثير منها كان تقليدا عالي الجودة، يُصنع في ورش محلية بمواد خفيفة ومريحة أكثر من تلك الرسمية.

وفي سعيهم المحموم لإيجاد حل لأزمة القمصان، قرر فريق تجهيز المعدات في المنتخب الأرجنتيني، بقيادة الحارس الاحتياطي هيكتور زيلادا، المغامرة والدخول إلى أزقة الحي.

لم يكن أحد يتوقع أن تكون هذه الرحلة القصيرة في أحد أكثر أحياء مكسيكو سيتي خطرا، هي ما سيُنقذ الفريق قبل مباراته التاريخية ضد إنجلترا.

مارادونا لخّص القصة لاحقا بجملة واحدة تحمل كل المعنى: “طلبت منهم أن يجدوا لي شيئا خفيفا.. وقد فعلوا”.

كانت المفاوضة مع الباعة سريعة وغريبة في آن واحد. فالتجار لم يصدقوا أن أشخاصاً من المنتخب الأرجنتيني الحقيقي يشترون قمصانا يعلم الجميع أنها مقلّدة، لكن الحاجة كانت أقوى من المنطق، والمشكلة كانت لا تحتمل التأجيل. وفي تلك اللحظة بالذات، تحوّل “المزوّر” إلى “منقذ”.

القمصان التي وجدوها كانت مثالية: مصنوعة من بوليستر أزرق فاتح، خفيفة الوزن، تحمل شعار شركة “لو كوك سبورتيف” المطرّز بعناية، وتشبه الرسمية إلى حد يكاد لا يُميَّز — لكنها أكثر انتعاشاً وملاءمة لحرارة الأزتيكا. كانت، حرفياً، الحل الأمثل في اللحظة الحاسمة.

اللمسة الأخيرة

BRITAIN-FBL-WC 1986-ARG-ENG-MARADONA-SHIRT-AUCTIONGetty Images

عندما عاد أفراد الجهاز الإداري والفني إلى مقر إقامة المنتخب حاملين القمصان الجديدة، بقيت خطوة حاسمة واحدة: تحويلها إلى قمصان رسمية مطابقة لمعايير الاتحاد الأرجنتيني لكرة القدم.

كانت العملية بدائية بكل ما للكلمة من معنى: مكواة، إبر، خيوط، وأقمشة مقصوصة على عجل – وكل ذلك تحت ضغط الوقت قبل مواجهة إنجلترا.

روبين موسكيلا، أحد أفراد الطاقم الإداري، روى القصة لاحقاً عبر موقع الاتحاد قائلا: “كنا نعمل حتى ساعة متأخرة من الليل، نخيط الشعارات بخيوط سريعة، أحيانا كانت الشعارات مائلة قليلا، والأرقام غير متناسقة، وكل قميص بدا مختلفا قليلاً عن الآخر”.

أما خورخي فالدانو فاستعاد المشهد بوضوح قائلا: “ظهرت أمامنا قمصان زرقاء لامعة تحمل أرقاما فضية. قال مارادونا على الفور.. يا له من قميص جميل! كنا جميعا مندهشين”.

بعض القمصان خرجت متقنة، وأخرى بدت مرتجلة تماما، لكن ذلك لم يكن مهما. ما كان يهم فعلا هو أن الفريق أصبح يمتلك قمصانا خفيفة ومريحة، مناسبة لحرارة منتصف النهار، وجاهزة لأكثر مباراة مشحونة بالعاطفة في حياتهم.

دهاء في أرض الملعب

Diego Maradona Hand of God Goal Argentina v England 1986Getty Images

أما الباقي، كما يُقال، فصار من التاريخ. وهم يرتدون تلك القمصان المرتجلة، نزل لاعبو الأرجنتين إلى أرض استاد الأزتيكا ليكتبوا واحدا من أكثر الفصول خلودا في تاريخ كرة القدم.

في الشوط الثاني، ابتكر مارادونا اللقطة التي ما زالت تقسم العالم حتى اليوم، قفزة خاطفة، لمسة خفية باليد، لتهتز شباك الحارس بيتر شيلتون. احتجّ الإنجليز بشراسة، لكن الحكم التونسي علي بن ناصر احتسب الهدف وسط ذهول الجميع.

لم تكن تلك اللقطة وليدة الصدفة، بل تجسيدا لدهاء شارع بوينس آيرس نفسه. كانت مثالا على الذكاء الكروي والمكر المشروع، وعلى القدرة على فعل ما لا يتوقعه أحد — الروح ذاتها التي دفعت المنتخب إلى البحث عن قمصان في أزقة تيبيتو، ظهرت من جديد على أرض الملعب في شكل هدفتم تخليده إلى الأبد.

هدف القرن

TOPSHOT-WORLD CUP-1986-ARG-ENGGetty Images

بعد أربع دقائق فقط، كشف مارادونا عن الوجه الآخر لعبقريته. تسلّم الكرة من منتصف ملعبه، راوغ خمسة لاعبين إنجليز الواحد تلو الآخر، ثم أنهى الهجمة بلمسة هادئة تجاوزت الحارس شيلتون.

كان ذلك هو “هدف القرن” — لقطة لا تزال تُدرَّس في أكاديميات كرة القدم حتى اليوم، ومشهد لا يمكن لأي تسجيل أن يختزل حقيقته، لأن ما حدث في تلك الثواني لم يكن مجرد عمل فردي، بل حالة وجدانية جماعية عاشها الملايين في لحظة واحدة.

كل لمسة من دييجو بدت كأنها إعلان تحرّر، وكل تغيّر في الإيقاع بدا كأنه تحد للقدر. مارادونا لم يكن يركض بالكرة فقط، بل كان يحمل على كتفيه آمال شعب جُرح في حروبه وأزماته، وكان بحاجة إلى بطل يمنحه معنى الفخر من جديد.

ذلك التناقض المدهش — بين الحيلة الماكرة والإبداع المطلق — لخص هوية كرة القدم الأرجنتينية بأكملها: ذكاء الشارع الممزوج بالفن، والعفوية التي تتحول إلى جمال خالد.

وكل ذلك حدث تحت قماش أزرق فاتح، تم شراؤه من سوق شعبي في مكسيكو سيتي. ذلك القميص، الذي وُلد كحلٍّ طارئٍ في لحظة أزمة، أصبح غلافا لأجمل هدف شهده تاريخ كأس العالم.

كانت تلك اللحظة التي امتزج فيها المتواضع والعظيم إلى الأبد، برهانا على أن معجزات كرة القدم تُخاط أحياناً بحياكة غير مرئية.

مونديال البراعة والابتكار

Argentine soccer star Diego Maradona, weGetty Images

يمكن النظر إلى كأس العالم 1986 على أنه بطولة فازت بها الأرجنتين بالدهاء قبل أي شيء آخر.

فبيلاردو كان مهووسا بالتفاصيل الصغيرة: من جداول التدريب الدقيقة إلى مراقبة مستويات ترطيب اللاعبين في كل حصة.

لكن وسط هذا الانضباط، كان هناك متّسع للارتجال العبقري.. لمسة اليد الماكرة، وقمصان تيبيتو، وخطابات مارادونا العفوية التي كانت تشعل الحماس في نفوس زملائه والجماهير.

أمام بلجيكا، أعاد دييجو سحره من جديد، مسجلاً هدفين من عالمٍ آخر.

وفي النهائي أمام ألمانيا، تكفّل خورخي فالدانو وخورخي بوروتشاجا بتحقيق حلم الأرجنتينيين، ليُكمل مارادونا البطولة بطابع لا ينسى، في كل تلك المباريات، لعب الفريق بروح جمعت بين الانضباط التكتيكي والدهاء الفطري.

ذلك المزيج كان السر الحقيقي: تنظيم بيلاردو الصارم أبقى الفريق متماسكا تحت الضغط، وشرارة مارادونا المبدعة جعلته وزملاءه لا يُقهرون عندما حان وقت الهجوم.

لم تكن الأرجنتين مجرد تكتيك، ولا مجرد موهبة.. بل كانت اتحاد رؤيتين متناقضتين ظاهريا، وُلد بينهما انسجام نادر في سماء المكسيك عام 1986.

إرث القميص الأزرق

Sotheby's Displays Maradona's Historic 1986 World Cup ShirtGetty Images

لم يتم ارتداء القميص الأزرق القادم من حي تيبيتو مرة أخرى. بعض نسخه لا تزال محفوظة في مجموعات خاصة، وأخرى اختفت بلا أثر، لكن قيمته الحقيقية لم تكن مادية قط، بل رمزية — فهو يجسد قدرة مجموعة من الرجال على حل مشكلة مستحيلة بالاعتماد على الذكاء الفطري وروح الابتكار.

ومع مرور الوقت، تحول ذلك القميص إلى أسطورة، تقف في ذاكرة الجماهير إلى جانب أهداف مارادونا نفسها.

اليوم، عندما يرى أي مشجع ذلك القماش الأزرق اللامع بأرقامه الفضية، لا يفكر في سلعة مقلّدة من سوق شعبي، بل يرى رمزا للصمود والدهاء والإبداع تحت الضغط.

إنه تذكير بأن المجد لا يُبنى دائما بالتخطيط الكامل، بل كثيرا ما يُنسج من قرارات صغيرة وارتجالات سريعة تصبح لاحقا حاسمة في صناعة التاريخ.

في المخيلة الجماعية للأرجنتينيين، لم يعد ذلك القميص “مزيفا”، بل صار أصليا لأنه شهد إحدى أعظم المباريات في تاريخ كرة القدم. قميص مقلّد تحوّل إلى كنز ثقافي خالد.

من الحي القاسي إلى قمة مجد كرة القدم

Argentina Team v England 1986 FIFA World Cup Quarter FinalGetty Images

في كل مرة تُعرض فيها لقطات هدفي مارادونا أمام إنجلترا، يجب ألا ننسى أولئك العاملين الذين سهروا طوال الليل يخيطون الشارات على القمصان في فندق المنتخب. فلولا تلك القمصان الخفيفة، ربما كانت حرارة الأزتيكا قد أنهكت اللاعبين قبل أن يصنعوا المجد.

كان مونديال المكسيك 1986 عظيما لأنه شهد مارادونا في ذروة عطائه، لكنه كان عظيما أيضا لأنه احتضن قصصا صغيرة عن عبقرية شعبية صنعت الفارق.

حي تيبيتو الشعبي، الذي وُصف طويلا بأنه “قاسٍ”، أصبح إلى الأبد مرتبطاً بـ “أولمبوس كرة القدم”، حيث تُصنع الأساطير.

وربما كان ذلك هو الإرث الأكبر لتلك الحكاية: أن تُظهر لنا أن كرة القدم لا تُلعب فقط على العشب الأخضر، بل أيضا في ممرات الفنادق، وفي الأسواق الشعبية، وفي يد عامل بسيط يخيط شارة تحت ضغط الوقت.

في المكسيك عام 1986، كان المجد نسيجا جماعيا، كل غرزة فيه — حقيقية كانت أو رمزية — أضافت خيطا جديدا إلى الملحمة.

وهكذا، بين الخداع والعبقرية، بين الزيف والخلود، كتبت الأرجنتين أحد أروع فصول كرة القدم في التاريخ — حكاية امتزجت فيها أزقة حي شعبي مكسيكي مع أسطورة مارادونا وذاكرة أمة بأكملها.s.



المصدر – كوورة

By Sayed