لم تكن رحلة المدرب الإسباني بيب جوارديولا مع كرة القدم مجرد مسيرة تدريبية عادية، بل سجل حافل بالابتكار والتجديد التكتيكي على مدار عقدين.
من برشلونة مروراً ببايرن ميونخ ووصولاً إلى مانشستر سيتي، صنع جوارديولا أساليب لعب جديدة، وحوّل فرقاً إلى آلات هجومية دقيقة، وجعل التكتيك والفلسفة جزءاً لا يتجزأ من كل مباراة.
ووفقا لصحيفة “ذا أتلتيك” البريطانية، تعكس هذه الرحلة قدرة المدرب الإسباني على التجديد المستمر لمواكبة تغيرات كرة القدم، وتوضح كيف أصبح أحد أعظم المدربين في تاريخ اللعبة.
1000 مباراة وتجديد تكتيكي مستمر
شهدت المباراة الألف في مسيرة بيب جوارديولا التدريبية، والتي انتهت بفوز مانشستر سيتي 3-0 على ليفربول، آخر تعديل تكتيكي في سلسلة طويلة من التجديدات.
خلال الموسمين الماضيين، أضاف مانشستر سيتي لاعبين قادرين على حمل الكرة إلى صفوفه، تماشياً مع تحوّل الدوري الإنجليزي نحو الرقابة الفردية واللعب البدني. كما ركز الفريق على خلق فرص فردية لأجنحته>
ضد ليفربول مؤخرا استخدم جوارديولا جيريمي دوكو في المناطق المركزية، مفضلاً حشد لاعبي الوسط، بينما حافظ الظهيران نيكو أوريلي وماتيوس نونيز على العرضية.
وقال جوارديولا لشبكة ESPN في 2024، عند سؤاله عن سبب تجديده المستمر لأساليبه: “لأن خلاف ذلك سأشعر بالملل. تكرار نفس الشيء لمدة ثماني سنوات سيكون مملاً للغاية”.
وأضاف: “ثانياً، عندما تفعل شيئاً ويجدي نفعاً، يشاهدك الخصوم ويبتكرون مضاداً… أي شيء نفعله ويردون علينا، علينا أن نرد مرة أخرى. السبب الثالث هو اللاعبين المتاحين لدينا، وما هي الخصائص المحددة التي يمتلكونها، ومتى يتكيفون أفضل مع طريقة اللعب التي تريدها”.
إن تجديد جوارديولا المستمر هو ما يجعله أحد أعظم المدربين في تاريخ كرة القدم. وفيما يلي أبرز التحولات التكتيكية التي أحدثها خلال فترات نجاحه مع برشلونة وبايرن ميونخ ومانشستر سيتي.
برشلونة (2008-2012)
كانت البداية الحقيقية لجوارديولا في التدريب مع فريق برشلونة الرديف في موسم 2007-08، ولكن خلال 12 شهراً، تم منحه قيادة الفريق الأول. في أشهره الأولى، اعتمد على خط دفاع يملك القدرة على التمرير والدفاع عن المساحات وكان محظوظاً بوجود ثنائي وسط ساحر في تشافي وأندريس إنييستا، مدعوماً بالحركة الديناميكية ليايا توريه أو تمريرات سيرجيو بوسكيتس الدقيقة.
الهجوم كان يضم تييري هنري وليونيل ميسي على الأجنحة وصامويل إيتو في الوسط، مع الحفاظ على انسيابية اللعب.
لكن في 2 مايو/آيار 2009، ضد ريال مدريد، نفذ جوارديولا أحد أبرز التحولات التكتيكية في كرة القدم الحديثة، حيث لعب ميسي كمهاجم وهمي – أي بمثابة لاعب وسط رابع – بينما كان إيتو وهنري يعملان خلفه.
الدقيقة السابعة من الفوز 6-2 تمثل رؤية جوارديولا، حيث كان ميسي يراوغ في مركز الرقم 10 لجذب مدافعين نحوه، بينما يشغل إيتو مركزاً مركزياً لجذب مدافعين آخرين، ويظل هنري حراً لاستلام الكرة، فيما يركض إنييستا لتمديد خط الدفاع الأخير لريال مدريد.
في الدقيقة 17، نرى نسخة أضيق من الأسلوب نفسه، حيث يستلم ميسي الكرة في الوسط، ومع وجود 7 مدافعين من مدريد، يشغل إيتو قلب الدفاعين ليفتح المجال أمام هنري للتسجيل، وهو ما يحدث بالفعل.
الدقيقة 58 تقدم مثالاً ثالثاً على نظام الرقم المهاجم الوهمي، حيث لا يستلم ميسي الكرة، لكنه يجذب مدافع ريال مدريد كريستوف ميتزلدر خارج الخط الخلفي، فيما يلفت إيتو انتباه جابرييل هاينزه، لتبقى الكرة أمام هنري لمواجهة فردية مع سيرجيو راموس، ويحرز الهدف مرة أخرى.
جوارديولا ليس معصوماً من الخطأ، فقد انتهت تجربة زلاتان إبراهيموفيتش ضمن نظام لعب برشلونة بالفشل في 2009-10، حيث خرج برشلونة من نصف نهائي دوري أبطال أوروبا أمام إنتر ميلان بقيادة جوزيه مورينيو، الذي كبح برشلونة بالدفاع العدواني والهجمات المرتدة.
ومع تعيين مورينيو في مدريد عام 2010، كان جوارديولا قد طوّر فريقه مرة أخرى. عاد نظام المهاجم الوهمي مع بعض التعديلات، حيث كان ميسي أحياناً صاحب الدور الأكثر عمقا في خط الهجوم، فيما يعمل تشافي وإنييستا وبيدرو في خط الوسط، ويثبت داني ألفيس وديفيد فيا على الخطوط.
في الموسم الأخير لجوارديولا، أظهر المهاجم الوهمي فعالية لا تُقاوم محلياً، حيث سجل ميسي 73 هدفاً وصنع 30 هدفاً. واستمر جوارديولا في التجارب، أبرزها الفوز 4-0 على سانتوس في نهائي كأس العالم للأندية، مع تبادل الأدوار بين لاعبي الوسط والخط الهجومي، ومرونة ميسي بين الجانبين.
بايرن ميونخ (2013-2016)
في بايرن، كان على جوارديولا إقناع فريق قوي الإرادة بتبني فلسفته، بعدما اعتمد يوب هاينكس، مدرب الثلاثية، على الرقابة الفردية، بينما ركز بيب على الاستحواذ المنظم، وسلاسل التمرير المعقدة، والحركة المستمرة.
التغيير الأول كان في كيفية اللعب بالكرة، حيث حول لاعبي الوسط ليكونوا أحراراً للتحرك وخلق مساحة إضافية، مع تحويل فيليب لام إلى لاعب وسط مدافع، والاستفادة من باستيان شفاينشتايجر، توماس مولر، توني كروس، تياجو وخافي مارتينيز في المواقع الأخرى.
في موسمه الأول، استخدم ماريو ماندزوكيتش كمهاجم وهمي، بينما استفاد ريبيري وروبن من الدعم الهجومي للظهيرين، وجرب أيضاً اللعب بالظهيرين في وسط الملعب، وهي استراتيجية سيعود إليها لاحقاً.
وصول روبرت ليفاندوفسكي في صيف 2014، جنباً إلى جنب مع إصابات ريبيري وروبن، دفع جوارديولا لتجربة تشكيلات وسط مختلفة، لكنه واجه نقصاً في الانفجار الهجومي، كما ظهر في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا ضد برشلونة بقيادة ميسي 2015.
الموسم التالي شهد إضافة الأجنحة الديناميكية كينجسلي كومان ودوجلاس كوستا، ولاعب وسط مجتهد أرتورو فيدال، ليقودوا التطور التكتيكي التالي، مع تعزيز الهجمات العرضية والاندفاع نحو منطقة الخصم لاستغلال ليـفاندوفسكي، الذي رفع رصيده التهديفي بشكل ملحوظ.
مانشستر سيتي (2016 حتى الآن)
عند تقديمه في يوليو/تموز 2016، أشار جوارديولا إلى حاجته لفهم طبيعة الدوري الإنجليزي، مع الإشارة إلى الطابع البدني وتأثيره على طريقة اللعب.
تجربة البداية لم تكن سهلة، خاصة بعد الهزيمة 4-2 أمام ليستر سيتي، حيث أكد جوارديولا أن الفوز أو الخسارة ليس مرتبطاً بالمواجهات الفردية، لكنه ركز على تطوير أسلوب الفريق في الاستحواذ من خلال صفقات مثل لابورت وميندي ووكر وبرناردو سيلفا وإيدرسون.
اعتمد على الأجنحة المعكوسة، مع وضع سانّي على الجهة اليسرى وستيرلينج على اليمنى، مما مكنهما من استغلال سرعتهما للانطلاق خلف الدفاع أو تصويب الكرة أو التمرير لزملائهما.
حقق الفريق لقب الدوري الإنجليزي 2017-18، مع استخدام كيفن دي بروين وديفيد سيلفا كلاعبين حرّين في الوسط، وظهر ذروة الأداء بالفوز 7-2 على ستوك سيتي.
مع الإصابات التي ضربت الفريق لاحقاً، دمج جوارديولا بين مفهوم اللاعبين الأحرار والجناحين المعكوسين، مما أتاح إنشاء مثلثات تمرير في الوسط، مع استفادة اللاعبين من حرية الحركة لتفادي ضغط المنافسين.
عودة المهاجم الوهمي مع أجويرو، ثم لاحقاً مع دي بروين وفودين ومحرز وجيسوس، عزز فعالية الضغط المضاد والهجمات المرتدة، بينما ساعد وصول هالاند في 2022 على تغيير طريقة اللعب مرة أخرى، مع الاستفادة من تحركاته خلف الدفاعات.
لاحقاً، اضطُر جوارديولا لإجراء تعديلات دفاعية عند غياب رودري بسبب إصابة في الرباط الصليبي، مع العودة لتوظيف المدافعين المركزيين في الجوانب لتوفير لاعب إضافي في البناء والهجوم الدفاعي.
آخر تعديلات جوارديولا شملت التعاقد مع لاعبي حمل كرة مثل دوكو وسافينو وتيجاني رايندرز، بالإضافة إلى تبديل حارس مرمى الذي يدعم أسلوب الاستحواذ وهو إيدرسون بآخر (جيانلويجي دوناروما) مغ تغيير نظام اللعب إلى الضغط واستثمار الكرة الثانية والثالثة والرابعة، بما يتماشى مع متطلبات الدوري الإنجليزي الحالي من الانتشار العرضي واللعب البدني المباشر.
على مدار ما يقرب من عقدين، كانت كل تعديلات جوارديولا تكتيكياً رداً على المتغيرات، وهو دائماً يجد الطريقة للإجابة على التحديات الجديدة.