على أرضية ملعب “ميتلايف ستاديوم” في نيوجيرسي، وفي ليلة رطبة اختلط فيها صخب الجماهير بحرارة يوليو/ تموز، وجد العالم نفسه يتجاوز حدود مباراة كرة قدم عادية ليراقب مشهدًا إنسانيًّا لافتا.
فالوافد البرازيلي الجديد إلى تشيلسي، جواو بيدرو، وقع على ثنائية مذهلة في الدقيقتين 18 و56 أمام ناديه الأم فلومينينسي، ليمنح فريقه بطاقة المرور إلى نهائي كأس العالم للأندية 2025، ثم ترك زملاءه يحتفلون وحدهم، كأنه يريد أن يقول للجميع إنّ صمتَه يزن ألف هتاف.
بهذا الامتناع المقصود عن الاحتفال، حرّك ابن الثالثة والعشرين مياه ذاكرةٍ راكدة؛ فالشاب الذي يساوي اليوم 60 مليون جنيه إسترليني لم ينسَ لحظة واحدة أصل الحكاية، ولا الطريق المُتَّشح بالشوك الذي أوصله إلى مركز الهجوم في أحد أعرق أندية أوروبا، ولا تلك المسافة النفسية الهائلة التي تفصل بين مدرجات نيوجيرسي الباهرة وزنازينَ رطبةٍ في ولاية ساو باولو البرازيلية، سُجِنَ فيها والده “تشيكاو” قبل أكثر من عقدين.
البداية:
في مساءٍ من يوليو / تموز 2002، أُسدل الستار على مستقبل لاعب وسط بوتافوجو، ريبيراو بريتو، خوسيه جواو دي خيسوس، الشهير بـ”تشيكاو”، بعدما أدانته محكمة محلية بتهمة التواطؤ في جريمة قتل وقضت بسجنه 16 عامًا.
حينها كان ابنه، جواو بيدرو، رضيعًا لا يتجاوز عمره بضعة أشهر، بينما وجدت زوجته فلافيا نفسها في مواجهة مجتمع لا يرحم، وأسئلة لا تنتهي عن الزوج الغائب والعار الذي التصق بالاسم العائلي فجأة.
بطولة أم
ذلك الحكم لم يَقضِ على طموح أبٍ فحسب، بل دفع الأسرة بأكملها إلى هوّةٍ اجتماعية؛ إذ سرعان ما انفصلت فلافيا عن “تشيكاو”، وقرّرت أن تطوي صفحته نهائيًّا، من دون زياراتٍ أو رسائل أو حتى صور، مكتفيةً بوعدٍ لنفسها أن تجعل من ولدها مشروع حياة جديدة، لا مشروعَ انتقامٍ من الماضي.
ومع أن الرجل خرج بعد 8 أعوامٍ فقط بعفوٍ مشروط، فإن الكرة كانت قد أدارت ظهرها له، بينما وجد جواو نفسه وحيدًا أمام مرمى الحياة المفتوح.
تروي فلافيا جونكيرا، في أكثر من شهادة صحفية، أنها باعت سيارتها وتركت وظيفةً مريحة في مدينة ريبيراو بريتو، ونقلت طفلها إلى الريو ليلتحق بأكاديمية فلومينينسي، وهناك عاشت أعوامًا عسيرة بلا دخلٍ ثابت، حتى إنها اضطرّت لطلب معونةٍ غذائية من النادي، لكنّها في كل صباحٍ كانت تُقنع ابنها بأن الركض وراء الكرة هو الطريق الأقصر للخلاص من سجنٍ لم يَدخُله قط.
توهج في قلب العاصفة
داخل ملاعب أكاديمية شيريم في ضواحي ريو دي جانيرو، لمع اسم جواو بيدرو سريعًا؛ فقد جمع بين حدّة المهاجم البرازيلي التقليدي وانضباط اللاعب الأوروبي، حتى وقعت عليه أعين كشّافي واتفورد الإنجليزي وهو في السادسة عشرة.
وبعد محطّةٍ أولى في إنجلترا، انتقل إلى برايتون صيف 2023 فصار من هدافي الفريق، إلى أن ارتدى قميص تشيلسي في صفقةٍ ضخمةٍ مطلع يوليو / تموز 2025.
وجد بيدرو نفسه بعد أيام قليلة فقط أمام الاختبار العاطفي الأكبر: مواجهة النادي الذي ربّاه، في بطولة تُذاع في أكثر من 200 دولة حول العالم.
getty
الدقائق التي أعادت كتابة الماضي
مع أول لمسة في الدقيقة 18، أطلق جواو تسديدة مقوّسة استقرّت في الزاوية البعيدة من مرمى فلومينينسي؛ لم يحتفل واكتفى برفع يديه، وابتلع الهواء كأنه يبتلع دموعًا قديمة.
وفي الدقيقة 56، أنهى هجمة مرتدة بهدف ثان، ثم عاد بخطوات بطيئة إلى دائرة الوسط، يرمق المدرجات الخضراء‑البيضاء التي طالما تبنّته، ويستعيد بكتمانٍ صورَ والدتِه وهي تُعدّ حقيبة الرحيل، وصورةَ والده خلف القضبان يشعر بالندم متأخرا.
بعد صافرة النهاية سألته شبكةٌ تلفزيونية عن سرِّ امتناعه عن الاحتفال، فاكتفى بالقول: “أنا محترف وأحترم تشيلسي، لكنّ فلومينينسي هو البيت الذي منحني الأمل عندما لم يكن ذلك متاحًا، ولا يمكنني أن أحتفل وأنا أسلبهم فرصةً في الحلم”.
بين المحاكم والنهائيات
هكذا اختُصر عقدان من الزمن في 90 دقيقة، من محضر شرطة كئيب في بلدة إيراسيمابوليس، إلى منصة مزدانة بشعارات فيفا، ومن زنزانة ضيقة حَرمت أبًا من مشاهدة خطوات طفله الأولى، إلى ملعب يتسع لسبعين ألف متفرجٍ يهتفون باسم ذلك الطفل وقد صار رجلًا.
ورغم أن تشيلسي سيواجه ريال مدريد أو باريس سان جيرمان على اللقب الأحد المقبل، فإن جواو بيدرو حسم لقبًا آخر لا يُمنَح بالميداليات. لقبُ اجتياز المسافة بين ماض معتم وحاضر مبهر.
Getty Images
تاريخ
عندما أطلق الحكم صافرة النهاية، لم يكن على لوح النتائج سوى الرقمين “0‑2″، لكن في هامش الدقائق كتب التاريخ سطرًا أطول: لاعبٌ خرج من رحم مأساة عائلية، صعد درجات المجد وحده، وحين وصل إلى القمة تذكّر أن اختزال الرحلة في ابتسامة أمام الكاميرات سيكون خيانة لعرق أم عظيمة ودمعة أب نادم ونحيب طفل كان يطرُق بوابةَ الملعب باحثًا عن مستقبل نظيف.
ولعل أجمل ما في القصة أن هدفين بلا احتفال كانا أبلغَ من ألف رقصةٍ أو صرخةٍ صاخبة؛ ذلك أن بعض الأهداف تُسجَّل في الشباك، وأخرى تُسجَّل في الضمير الإنساني، وجواو بيدرو، في ليلة نيوجيرسي الحارّة، اختار الثانية، فصفّق له الخصوم قبل الأنصار، وتعلّمت كرة القدم، ولو للحظة، أن البسمة يمكن أن تؤجَّل، إذا كان في الصمت شكرٌ أعمق للذين صنعوا المعجزة من العدم.