بينما كان الجميع ينتظر أن يضيف باريس سان جيرمان لقبًا جديدًا إلى خزانته المليئة بالبطولات بنهاية الموسم 2020-2021، انقلبت التوقعات رأسًا على عقب.
في الشمال البارد من فرنسا، حيث لا تصل الأضواء عادةً إلا نادرًا، كان فريق ليل ينسج خيوط قصة استثنائية. لم يكن أحد يراهن على رجال المدرب كريستوف جالتييه أمام كتيبة نجوم يقودها نيمار داسيلفا وكيليان مبابي، لكن المفاجأة تحققت: ليل، النادي الذي اعتاد أن يكون في الظل، تسلّق القمة وانتزع لقب الدوري الفرنسي من بين أنياب العملاق الباريسي.
فهل كان هذا التتويج ثمرة تخطيط محكم ودراسة متأنية، أم مجرد استغلال لحظات ضعف منافسه المدجج بالنجوم؟
لم يكن تتويج ليل وليد الصدفة أو خطأ فادح من سان جيرمان وحده، بل جاء حصيلة جهد فني وإداري منهجي، حيث اعتمد المدرب كريستوف جالتييه على تنظيم دفاعي محكم واستثمار المواهب الشابة، ما أثبت أن الإدارة الذكية والالتزام الفني يمكن أن يعوّض الفارق الكبير في الإمكانات المالية بين ليل وفرق مثل سان جيرمان.
فعلى سبيل المثال، كان ضمن تشكيلة ليل 4 لاعبين سابقين في أكاديمية سان جيرمان، إضافة إلى المخضرم جوزيه فونتي في قلب الدفاع، وخط الوسط بقيادة بوباكاري سوماري وريناتو سانشيز، وعلى الهامش الهجومي تألق المهاجمان جوناثان دافيد وبوراك يلماز.
وعوّض ليل بعض العثرات التي تعرّض لها في النصف الثاني من الموسم، فبعد أن كان سان جيرمان متصدرًا منذ بداية الموسم، سقط بشكل مفاجئ أمام ليل في بارك دي برانس في أبريل/ نيسان 2021 بهدف دون رد، وكان لهذا الانكسار وقع كبير في سباق اللقب، إذ منح ليل ثقةً وشرارةً حاسمة ليستمر في الصدارة.
نجوم لامعة ومدرب مجتهد
في تشكيل ليل التي صنعت إنجاز اللقب، كان للمدرب كريستوف جالتييه الدور الأكبر. عرف عنه تطور مذهل في فرقه السابقة، وقدّم أكبر إنجازاته حين أوصل ليل من معاناة الهبوط إلى تشريف تاريخ النادي بإسقاط باريس سان جيرمان والتتويج باللقب.
ولعبت الخبرة دورًا مهمًا؛ إذ سجّل الثنائي الهجومي جوناثان دافيد وبوراك يلماز معًا 29 هدفًا في الموسم، كانت عناصر ليل الأساسية منسجمة أيضًا مع فلسفة المدرب، فيما حارس المرمى مايك ماينان حافظ على نظافة شباكه في 21 مباراة.
ووجد المخضرم فونتي في ليل بيئة خصبة للتألق، وأصبح قلب دفاع صلب إلى جانب الوافد الجديد الشاب زفن بوتمان، وعلى الأجنحة، لعب جوناثان بامبا دورًا بارزًا بفضل سرعته وقوته على طرف الملعب، حيث صنع 9 أهداف وسجل 6 بنفسه.
الأساليب التكتيكية الدفاعية
في الملعب كان ليل يجسد المثل القائل “الدفاع يصنع الأبطال”. فقد لعب بخطة رباعية دفاعية ومثلها في الوسط (4-4-2)، مع التركيز على الخطوط الوسطى المحصنة. لم يكن الفريق يضغط بقوة عالية، بل اعتمد على الرقابة المنخفضة والمنضبطة في الوسط، ما حدّ من فرص المنافسين على اختراق العمق.
وعندما رغب ليل في الضغط، كان مهاجماه يفتقران إلى تناغم دفاعي خصمهما، فيتوجّهان للضغط على الأطراف للحؤول دون البناء السريع، حيث تسانده أجنحة نشطة وصاعدة.
طبيعة دفاع ليل الضيق أدت إلى إجبار الخصم على استغلال الجانب الأيسر للميدان، وهو ما لم يأت بنتائج كبيرة. ةفي مواجهة فرق تلعب بثلاثي في الوسط، كان الجناح الأيمن لويس أراوخو يتحرك إلى الداخل ليخلق مثلث وسط دفاعي (4-2-2-2) يربك خصومه.
وفي المرتدات السريعة، برع يلماز في استلام الكرة لربط اللعب، بينما انطلق دافيد خلف مدافعي الخصم بقياسات تهديفية عالية.
باختصار، تميز أسلوب ليل بالدقة التكتيكية والانضباط الدفاعي مع سرعة في التحوّل للهجوم، ما جعل الفريق قويًا على الصعيدين الدفاعي والهجومي رغم اقتصاره على 64 هدفًا فقط في الموسم.
تأثير جائحة كورونا
جرت أحداث هذا الدوري الاستثنائي في ظل ظروف صحية قاهرة. فقد تمّ إلغاء الموسم 2019-2020 قبل نهايته بسبب جائحة كورونا.
ومع تطبيق إجراءات التباعد، سُمح بحضور جمهور محدود (حتى 5 آلاف متفرج بحدود) في بداية الموسم، قبل أن تعود المنافسة في فترات خلف أبواب موصدة بسبب موجات الوباء.
أدت هذه الجائحة إلى جدول مرهق وغموض مستمر، ولكن ليل تعامل مع هذه الظروف بجدية؛ استثمر الهدوء النسبي على دكة البدلاء في تعزيز التفاهم بين لاعبيه وضبط برنامج إعداد متناغم، وخاض ليل الموسم بأصغر عدد من اللاعبين في البطولة كلِّها (22 لاعبًا فقط).
وشكّلت قصة تتويج ليل عنوانًا دراميًّا ومُلهمًا في موسم غلبت فيه عناصر الاندماج والشغف على حساب المال والفوضى.. فوز ليل بكأس البطولة كان نتيجة إصرار ومجهود جماعي وتخطيط محكم أكثر منه استغلال لعوامل المنافسين.